لا أعتقد أن أحداً من المتابعين للصراع في فلسطين، والقارئين لتفاصيله ومستجداته، توقّع أن يتطوّر التصعيد الإسرائيلي الأخير ضد غزة إلى حرب واسعة على غرار تلك التي جرت نهاية العام 2008؛ لسبب بسيط يتمثل في كون اللاعبان المركزيان أي إسرائيل وحماس لا يريدان الحرب، كلٌّ لحساباته الخاصة، ناهيك عن الظرف الإقليمي –الدولي غير المؤاتي والذي تمحور حتماً في صلب تلك الحسابات. وعموماً، يمكن شرح هذا الاستنتاج باختصار، ولكن بتركيز، على النحو التالي :
تعي القيادة السياسية الإسرائيلية، وتحديداً رئيس الوزراء بنيامين نتن ياهو، أن ليس بوسع إسرائيل من الناحية السياسية شنّ حرب واسعة ضد قطاع غزة. وعوضاً عن منحى اليمين التقليدي للحفاظ على الوضع الراهن قدر الامكان، يعتبر نتن ياهو أن المهمّة المركزية له ولحكومته تتمثل في إحباط المساعي السياسية للسلطة الفلسطينية من أجل نيل اعتراف الأمم المتحدة بدولة مستقلة ضمن حدود 4 حزيران (يونيو) 1967. ويفترض أنه يعي أيضاً أن ليس بوسعه طلب الدعم الدولي -الغربي تحديداً- من جهة، والتوجّه إلى حرب واسعة ضد غزة من جهة أخرى، ناهيك عن عدم تحديد أي هدف سياسي للحرب، كون رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يتعاطى بجدية مع فكرة إسقاط حماس وحكومتها؛ لتكريس الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي الحالي المفيد جداً لإسرائيل، كما لرفض أي جهة فلسطينية الدخول أو العودة إلى غزة لتولي السلطة على ظهور الدبابات الإسرائيلية. وهنا، لا بأس من التذكير بما جرى في بداية أيلول (سبتمبر) الماضي، مع انطلاق الجولة الأخيرة للمفاوضات بين السلطة وإسرائيل في واشنطن، وحينها، نفّذت حركة حماس عملية في الخليل أوقعت أربعة قتلى في صفوف الشرطة الإسرائيلية، فطلب نتن ياهو -وكان آنذاك في واشنطن- الردّ ضد حماس في غزة، فرفض رئيس الأركان المنصرف غابي اشكنازي، كما رئيس الشاباك يوفال ديسكين الفكرة للحفاظ على الانقسام وعدم تعزيز فكرة التوحّد السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة .
إيهود باراك، المحلل الاستراتيجي البارز لشؤون الشرق الأوسط في الحكومة-حسب التعبير الساخر لأحد المعلّقين- لا يبدو متحمساً هو الآخر للحرب ضد غزة، وهو يعتقد أن إسرائيل ستواجه تسونامي سياسياً وديبلوماسياً في أيلول( سبتمبر) القادم ،والردّ يجب أن يستند إلى خطة سياسية مدعومة بـ "القوة الأمنية والعسكرية الرادعة"، حسب تعبيره. مع العلم، أنه رفض خلال حرب غزة الأخيرة، بدعم من رئيس الأركان المنصرف غابي اشكنازي، طلب اهود أولمرت الخاص بتنفيذ عملية برية واسعة في قطاع غزة تشمل إعادة احتلال محور صلاح الدين على الحدود مع مصر، لإسقاط حكومة حماس، معتبراً أن ذلك غير واقعي وأنه يعني إعادة احتلال القطاع بكامله والغرق في أوحاله. وهذا لا يضمن إزاحة حماس من المشهد السياسي أو حتى إضعاف المقاومة، ناهيك عن كلفته الباهظة سياسياً وإعلامياً
واقتصادياً(مليار شيكل شهرياً التكلفة المباشرة فقط لإعادة احتلال غزة) .
هناك انشغال كبير بالثورات العربية المتنقلة من ميدان إلى آخر، وثمّة شعور بعدم اليقين وتوجّس من تداعيات سلبية مستقبلية لها على إسرائيل. وتميل معظم الآراء إلى الانتظار إلى حين جلاء واتضاح المشهد العربي والإقليمي، ومن البديهي ألا يتضمّن ذلك شن حرب واسعة ضد غزة، خاصة بعد سقوط نظام مبارك في مصر وموقف القيادة الجديدة الرافض لفكرة الحرب من حيث المبدأ (كامب ديفيد لا تعني تقديم جوائز لإسرائيل حسب نبيل العربي)، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل تصوّر أن تشنّ إسرائيل حرباً وهي غير مطمئنة أو على الأقل غير قلقة من الجبهة الجنوبية. وبنظرة إلى الوراء،ما كان بالإمكان تصوّر أن تقوم إسرائيل بشنّ الحرب مرتين ضد لبنان ومرة ضد غزة دون الشعور بموافقة، أو حتى بعدم ممانعة، من قبل النظام المصري السابق
في السياق الفلسطيني، تجدر الإشارة إلى موقف حماس ورؤيتها غير المحبّذة للحرب، في الوقت الراهن، لعدة أسباب، منها: عدم إعادة إعمار ما تدمر في الحرب السابقة، كما أن سيرورة استعدادها وجهوزيتها لم تصل إلى الدرجة المرجوّة بالنسبة لها، عوضاً عن الخشية من فقدان السلطة طبعاً، وفي الخلفية الثقة والاطمئنان لما جرى في مصر، والاقتناع بأن الوقت يعمل لصالح حماس وخيار المقاومة بشكل عام. وفي هذا الصدد، يجب الانتباه إلى تغيّر نوعي وهام في موقف الحركة التي أعلنت صراحةً أنها لم تستهدف حافلة الطلاب بشكل متعمّد، وهي لا تستهدف المدنيين أساساً. وهذا يتساوق بالطبع مع الموقع السلطوي، كما مع المطالبة الدائمة بتنفيذ توصيات تقرير غولدستون الشهير. وبديهي أن من يطالب بمعاقبة إسرائيل لاستهدافها المدنيين لا يمكن أن يبادر إلى فعل الشيء نفسه. وهنا، نحن أيضاً أمام ترجمة أخرى لموقف حماس السياسي شبه المستجد الذي يقبل بدولة فلسطينية ضمن حدود الرابع من حزيران يونيو 1967.
كما كان متوقعاً، انتهت جولة التصعيد الأخير بتكريس اتفاق التهدئة الشفوي الهشّ وغير الرسمي، علماً أن ثمّة أسئلة كبرى ينبغي أن تطرح للنقاش في الساحة الفلسطينية من قبيل: كيف ولماذا تحوّلت التهدئة إلى مصلحة للشعب الخاضع للاحتلال بينما أضحى التصعيد مصلحة للقوة الخاضعة للاحتلال؟ وإذا كانت التهدئة مصلحة وطنية آنية، فيجب أن يلتزم بها الجميع. ولا تملك أي جهة حقّ الردّ على الخروقات الإسرائيلية بدون توافق أو تفاهم مسبق. والأهمّ من كل ذلك، ما قاله السيد محمود الزهّار ذات مرة "غزة تحرّرت ولا مقاومة فيها والمقاومة فقط في الضفة الغربية "، وهو تحليل صحيح للواقع، خاصة بعد تنفيذ خطة "فك الارتباط" الاسرائيلية عن غزة خريف العام 2005، حيث باتت المقاومة في حالة ردعية ودفاعية ولا تستطيع خوض حرب يومية مع الاحتلال غير المباشر للقطاع عبر الصواريخ فقط، وساحة المقاومة الرئيسية -كما قال الزهار- هي الضفة الغربية، وهذا هو التحدي الأساس اليوم أمام الفلسطينيين. وبديهي، أن من شبه المستحيل مواجهته دون إنهاء الانقسام، والتوافق على بلورة استراتيجية موحّدة لمواجهة إسرائيل بكل الوسائل المتاحة، فى معركة مفتوحة، من رفح إلى نيويورك، ومن بلعين إلى لاهاي .
مدير مركز شرق المتوسط للإعلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق