مما لا شك فيه أن موقف تيار الإسلام السياسى فى مشروع الدستور الجديد يثير
الكثير من القلق بل والرعب على العديد من المستويات، ولكن ما يثير القلق
أكثر ويثير الكثير من علامات الاستفهام هو موقف الأحزاب والقوى المدنية من
الدستور الذى يتم كتابته الأن والمتمثل فى التجاهل التام له وكأن شيئا ما
لا يجرى، فى تكرار لأخطاء كثيرة ارتكبتها الأحزاب والقوى المدنية أثناء
وبعد ثورة يناير، ومازالت مصرة على ارتكابها حتى هذه اللحظة.
وينقسم موقف هذه الأحزاب والقوى بين أمرين، الأول هو أن المعركة الحقيقية
ليست الدستور وأن الدستور مهما كتب فيه يظل تطبيقه مرهونا بالحركة
الاجتماعية وإلا فإنه سيكون حبرا على ورق. أما الأمر الثانى فيتمثل فى عدم
اعترافهم بتشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور لعدم تمثيلها لكافة فئات
المجتمع المصرى وغلبة تيار الإسلام السياسى عليها ومطالبتهم بحلها.
والحقيقة أن الحجتين صحيحتان تماما ولكنه حق يراد به باطل، والحق هنا هو أن
هذه الحجج صحيحة والباطل المراد هو عدم الاشتباك مع الدستور مطلقا من جانب
هذه الأحزاب والقوى.
وردا على الموقف الأول فبالتأكيد أى قانون سواء دستور أو غيره لن يصبح
مفعلا إلا إذا كانت وراءه حركة اجتماعية تدفع فى سبيل تجسيد هذه القوانين
على أرض الواقع، ولكن ما نسيته أو بالأحرى تناسته هذه القوى، ربما عن عمد،
أن الدستور والقانون لو كتب بشكل سئ فإنه سيستخدم لقمع هذه الحركات
الاجتماعية ويكون معرقلا وربما هادما لها، كما سبق وحدث فى عهد الرئيس
المخلوع حيث تم تقنين القمع وتكبيل الحريات ، بل والفساد ذاته، حتى صارت كل
هذه الممارسات من قمع وفساد ممارسات قانونية تمارس باسم القانون. وهنا
سيكون النضال نضالين، نضالاً لتغيير القوانين الجائرة ونضالاً اجتماعياً
لتغيير السياسات والتى سيتم قمعه بواسطة القانون.
وردا على الحجة الثانية والتى أؤكد على أنها صحيحة، إلا أن هذه القوى اكتفت
برفضها العام لتشكيل الجمعية التأسيسية دون أن تتعامل مع ما يجرى فيها من
كتابة للمواد، ولو حتى على سبيل الفضح السياسى لرؤى ونوايا تيار الإسلام
السياسى لمصر وللمجتمع. بل وتعاملت هذه الأحزاب والقوى مع الأمر وكأن
الدستور قد تم بالفعل الانتهاء منه وتم الاستفتاء عليه بنعم وبدأت فى تكوين
تحالفات بغرض خوض الانتخابات البرلمانية القادمة وحتى يكون لهم موطئ قدم
فى المفاوضات (المساوامات) السياسية فى المرحلة القادمة.
وفى الحالتين، تركت هذه القوى الشعب المصرى فى حالة من التخبط العام والتى
لا يعلم فيها ما يجرى فى كتابة الدستور، ولا يعلم حتى إن كانت هذه المواد
فى صالحه أم لا. ففى الكثير من الأحيان سيصعب حتى على بعض المتخصصين اكتشاف
الألغام التى فى الدستور، وفى كل الأحوال لن يدركها المواطن العادى.
وفى الوقت الذى تتجاهل فيه القوى المدنية الدستور، يقوم الأخوان المسلمون
بوضع خطة لحشد المواطنين للتصويت بنعم فى الاستفتاء عليه. وإن كانت القوى
المدنية تظن أنه بعد التصويت بنعم على الدستور أنها سوف تحقق مكاسب فى
معركة الانتخابات البرلمانية فإنها تكون واهمة، وإن كانت تظن أيضا أن
مشاركتها فى برلمان ذى أغلبية من تيار الإسلام السياسى هو مكسب فهى أيضا
واهمة، ومثال مجلس الشعب المنحل مازال قائما ليشهد على فشل هذه المشاركة.
الأمر الأخر الذى لا أستطيع استيعابه هو كيف لهذه الأحزاب والقوى المدنية
التى رفضت الاعتراف بالجمعية التأسيسية وأيضا لم تشتبك مع عملية كتابة
الدستور، كيف لها أن تشارك فى انتخابات سيضع نظامَها الدستور الذى سيخرج عن
جمعية تأسيسية لا يعترفون بشرعيتها؟! وإن كانت هذه المشاركة الانتخابية هى
عملية تكتيكية تبيحها المرحلة الحالية، فلماذا إذن لم يتم الاشتباك مع
الدستور وعملية كتابته بنفس المنطق التكتيكى علماً بأن صياغة الدستور أهم
بكثير من المشاركة فى الانتخابات البرلمانية ؟!!!
وهناك أيضا من القوى المدنية من يتعامل مع الدستور بالقطعة؛ فهناك من يروج
لفكرة أن نرضى به لأن هناك مواداً جيدة (حتى فى ظل وجود مواد كارثية أخرى
!!!)، وهذا، للأسف، ما تروج له بعض القوى المدنية سواء من داخل التأسيسية
أو من خارجها. فقد كان صادماً أن نسمع بعض الحقوقيين المعروفين على مستوى
العمل فى حقوق الإنسان وهم يروجون لفكرة رضائهم عن الدستور بنسبة 70% !!!،
وهو موقف أقل ما يقال عنه إنه موقف مريب. لذلك فإنى أدعو كل القوى المدنية
سواء اتفقت أو اختلفت معها أن تحكم ضميرها وحسها الوطنى وأن تشتبك مع عملية
كتابة الدستور الجديد وأن تتولى مسئوليتها المبدأية والتاريخية عن طريق
توعية المواطنين بمواطن الخطر فيه والتصدى لها، حتى وإن لزم الأمر للدعوة
بالتصويت ب (لا) على الدستور، فإن كتابة دستورَ مصر معركةٌ لا نملك رفاهية
تجاهلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق